عند خوض رحلة الوالدية تتبدل كثير من الأولويات في حياة الأم والأب! تصبح غريزة البقاء والحماية هي الطاغية على السطح. كيف لي أن أحمي طفلي من الوجع؟ خيبة الأمل؟ السقوط؟ التنمر؟ والأهم من ذلك كيف لي أن أحمي قلبه من أن ينكسر بسبب تعليق
سخيف جارح قد يمتد أثره لما بعد البلوغ؟
الأمر خارج عن سيطرتك
سلمى طويلة وهبيلة
محمد أذناه معوجة من الممكن أن يكون جاسوسا
سارة تشبه الأولاد ولديها شنب
نور فاشلة لا تعرف أن ترسم كفنانة
سلطان مسيطر كرئيس لن يتحمله أحد
تعليقات كهذه نظن أنها كفيلة بإلحاق ضرر طويل المدى يشعرك أن دورك كأب ودورك كأم في حماية طفلك لم تؤدياه بالقدر الكافي!
تجري مدافعًا عن طفلك بكل ما أوتيت من قوة، ربما بالرد على هذا الطفل المتنمر وتصعيد الأمر إن لزم للكادر التعليمي المسؤول، وتُطالب بدورهم ليس فقط في تقديم المعلومات لطفلك ولكن بتقديم الدعم النفسي والتدخل لإيقاف هذه المهازل التي تحدث بشكل يومي بين الطلاب! ظانًا أنك حميته وتحكمت في كل ما قد يؤدي لإفساد نفسيته وأعددته للدفاع عن نفسه مستقبلًا!
لكن ماذا عن الأحداث التي يكتبها الله عليه ولا حول لك فيها ولاقوة، عندما تصاب بالعجز والشلل الكامل، وتتجرد تجرد تام من الحول والقوة، وينفذ مخزونك من الطاقة لمحاولة النهوض، وتجف لديك الموارد من أي وسيلة للحماية وتشعر بالاستسلام التام.
ماذا لو فقد طفلك والده أو والدته؟ ماذا لو فقد صديقه العزيز فجأة؟ ماذا لو قررتما الانفصال؟ ماذا لو أصيب جده بالسرطان؟ ماذا لو أصيب قريبه في حادث سير؟ ماذا لو حدث أمر عظيم قدره الله عليه وعليكم كعائلة استحالت عنده الأسباب في تقديم أي نوع من الحماية وفقدت عندها أي قدرة على التحمل ورآك طفلك بإنسانيتك المجردة من كل قوة تبكي بكامل ضعفك وحيرتك. ماذا لو لم تكن النهايات دومًا سعيدة كما كنا نقرئها لهم في قصص الأطفال قبل النوم ماذا لوأكل الذئب الجدة ولم تجد سندريلا فتى أحلامها؟
{ولا تخافي ولا تحزني}
نخشى كثيرًا على أطفالنا ونخاف من أن يشعروا بالخوف والحزن، نود لو أنا أرجعناهم داخل أرحامنا فقط لنحميهم من قسوة وبشاعة ما يجري في هذه الحياة! ولكن هل نحن بذلك حقا نحميهم؟ هل أحداث الحياة خالية فعلا من الوجع، الألم، الحزن والخوف؟ هل نحن نحميهم بحق أم نزيدهم هشاشة تجعلهم أكثر رعبًا عند مواجهة أمر محزن لابُد من مواجهته؟
هل نحن نقوّي عضلة العزيمة والإصرار لديهم بالفعل؟
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم لأم موسى عليه السلام ((فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين))
يقول الجنيد في تفسير هذه الآية إذا خفت من حفظه وحمايته، فسلميه إلي (الله سبحانه وتعالى) بإلقائه في البحر، واقطعي عنه شفقتك وتدبيرك. تجردي من حولك وقوتك وإلجئي لحول الله وقوته بيقين أنه المدبر وأنه على كل شيء قدير. هو وحده الذي تكفل بحفظ موسى من فرعون وقومه وهو القادر على رده إليك!
{ولا تخافي ولا تحزني} أيتها الأم أيها الأب خوفًا على ما قد يحصل في المستقبل أو حزنًا على ما قد حدث وأنت تشعر أنك مسلوب الإرادة لا تدري كيف تحافظ على طفلك وتحميه.
لنتذكر أنه من يتوكل على الله سبحانه فهو حسبه ولنكن على ثقة في الله الحفيظ ولنردد ” اللهم إني استودعتك ذريتي يامن لا تضيع عنده الودائع في حضوري وفي غيابي في حلي وترحالي في يقظتي ومنامي، في حياتي وبعد مماتي، فاجعلهم اللهم في حفظك وكنفك ورعايتك وأمانك، واحفظهم من كل سوء ومكروه”
وتأكد أن من جعل الله حسبه وكافيه فليُبشر بالفرج الذي قد يأتي على شكل سكينة تهبط على القلب وقبول ورضى لما حدث، وقد يأتي على هيئة ثقة بحكم الله وحكمته وأن أمره وقضاءه كله خير، وقد يأتي الفرج على شكل نمو قد يحدث بعد الأزمة والجبر له أشكال عدة والفرج كذلك فقط أسأله السعة لإدراك هذه المعاني والصبر والثبات.
ستكون هناك أحداث مروعة، حروب، أمراض وفقد. ولكن على الرغم من أن هذه الأشياء من الممكن أن تحدث بتقديرالله سبحانه وتعالى إلا أن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وكل بلاء ينزل يسبقه لطف الله سبحانه وتعالى، فلماذا بدلًا من أن نوجّه جهودنا الفطرية لحماية طفلنا حماية قد تكون في بعض الأحيان مفرطة تؤدي لهشاشته النفسية، إلى تعليمه أنّ الله سبحانه وتعالى متكفل بحمايته وحفظه وأنه هو الرب الرحيم أرحم به مني أنا أمه وأرحم به من أبيه.
الطريق إلى القوة الداخلية لا يكمن في الهرب من القلق والخوف، بل هو إنارة الضوء داخل السراديب المظلمة ومعرفة أن هذا الخوف جزء من الابتلاءات التي كتبها الله علينا {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} بشّر تعني أن الصعوبة ستزول بحول الله وأنها مؤقتة.
لنتعلم من القصص
هناك قصة أطفال للكاتبة جوديث اسمها “قصة النمر الذي أتى من أجل شرب كوب الشاي” يسترشد بها المختصين حاليا مع الطفل الذي يمر بأزمة بأنه من الممكن أن يحدث حدث سيء، ولكن بالإمكان أيضًا تحمله! تحكي القصة عن فتاة صغيرة تدعى صوفي تتناول الشاي مع والدتها في مطبخهم، عندما تسمع جرس الباب فجأة، وسرعان ما تفتح الباب لتجد نمرًا ضخمًا ينضم لهما ووالدتها لتناول الشاي ثم يأكل كل الطعام الموجود في المنزل ويشرب كل شيء، حتى أنه يستنزف كل الماء الموجود في الصنابير. بعد أن يغادر النمر، تشعر صوفي بالانزعاج ولكنها في اليوم التالي تخرج هي وأمها لشراء المزيد من الطعام بما في ذلك علبة كبيرة من طعام النمر استعدادا لزيارته المفاجأة. ولكن النمر لا يعود ثانية أبدًا.
لذلك النمر قد يمر وقد يطيل الزيارة ولكنه حتما بعد برهة سيذهب بعيدًا!
لماذا لا تنبت يدي كل ما غرسته لأمي وتزهر عندما ألونها بالأخضر؟ ومن أين تتوالد ضحكات أبي و قهقهاته؟
تقول أمي أنه يجب علي أن أنهي كل ما أضعه في صحني ولكن هل ستكبر حبة البازلاء في أحشائي وتنبت طفلًا كما يكبر الجنين في أحشائها عندما تأكل؟ لا لن أنهي صحني لا أريد مخلوقًا مزعجًا آخر في بيتنا!
أتساءل أيضًا أين يقف الطير الأخضر كل يوم ليهمس لأبي عن ما فعلته في يومي؟ وكيف له أن يفهم لغته؟ أليس نبي الله سليمان هو من يفهم منطق الطير وحده؟ ولماذا لا يخبره عن الأشياء الجميلة التي قمت بها في يومي؟ حسنًا سأغلق جميع الشبابيك لكي لا يجد هذا الطير الأخضر منفذًا!
أمشي وأمشي وأمشي ويمشي القمر معي، “كيف لهاذا المخلوق الجميل أن يلاحقني ولا يمل؟” أسأل أبي
فضولي الطفولي الفطري كان بإمكانه أن يتضاءل ويموت في يوم ما لو قوبلت بجواب حتمي، أو ببساطة لو قيل لي: “لا داعي للأسئلة التي ليس لها جدوى!” كان أبي دومًا يترك لنا هذه المساحة للتساؤل والفضول، صحيح أني كنت أتلقى أجوبه حتميه أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى كنت أسمع “عندما تكبرين يا ابنتي ستفهمين!” ولكن أسئلتي لم تقابَل بالتهكم أو الإغلاق!
كنت أظن أنني عندما أكبر سأكون قد وصلت لحقيقة الأمور! نعم فالكبار قد فكوا شفرة الحياة ومعانيها ويبدو أنهم خاليين من الحيرة و لا شيء يستعصي عليهم فهمه! فكيف لي أن أقفز سنوات عمري وأصل لهذا المكان الملوكي وأجد جوابًا لكل سؤال يتقافز في ذهني؟
كبرت وعلمت أن الأسئلة لا تنتهي ولكنها تتوالد ويصبح لها أطفال وأحفاد وأبناء عمومة!
كبرت وأصبحت أمًا وتجدد فضولي مع أبنائي، تلك الدهشة التي أراها في عيونهم وهم يحاولون فك ألغاز الحياة فأعاود التساؤل والدهشة من جديد، وأدعو حينها أن لا تنتهي ولا تنطفئ دهشتي معهم!
أسئلتهم رغم بساطتها و فطريتها تصبح أحيانًا تساؤلاتي! تعلمت كيف أحتفل بهذه التساؤلات ولا أوئدها في مهدها رغم مشاغل الحياة وسهولة الجواب في نظري!
“ماما ألسنا مخلوقين من طين؟ كيف للطين أن ينبت شعرًا؟” كان آخر تساؤلات ابنتي الصغيرة مريم
“ماما لماذا لم تسمي أخي فاضي؟ مثل العلبة الفاضية بصراحة هو ممل وكثير البكاء ليتك أحضرتِ شيئًا أكبر منه” تسأل بتيل
ومرة فاجئني ياسين بسؤاله: “لماذا لا يمكنك التصدق بأختي كما تتصدقين بملابسنا؟ ولماذا لا تشتريلها أسنان من السوبرماركت وتتوقفي عن إطعامها؟”
“ماما ما معنى (يمنع الماعون) أليس هو من يمتنع عن الصدقة؟ لماذا تحتفظين إذا بعيدياتي؟” سألتني ملك ذات يوم:
“هل للشيطان امرأة تحت الأرض كما خلق الله حواء وآدم على الأرض؟”
وعندما كبرت صغيرتي أدهشتني ذات يوم عندما سألتني: “كيف لي أن أفرق بين صوتي وصوتك في ذهنك؟ كيف لي أن أعرف أن ما أقوم به نابع من قيمي وهو صوتي الداخلي وليس صوتك ولإرضائك؟ كيف أفرق بين وساوس نفسي ووساوس الشيطان يا أمي؟”
يكبرون وتكبر أسئلتي معهم!
أكبر وأتوق لبريق الدهشة، ذلك الذي يدغدغ وجداني ولم يعد يزورني إلا كل حين!
سأعرف أني كبرت حتمًا عندما تتوقف عيني عن اللمعان والبريق وروحي عن الاندهاش!
>
>
بقلم رولا بادكوك.