عند خوض رحلة الوالدية تتبدل كثير من الأولويات في حياة الأم والأب! تصبح غريزة البقاء والحماية هي الطاغية على السطح. كيف لي أن أحمي طفلي من الوجع؟ خيبة الأمل؟ السقوط؟ التنمر؟ والأهم من ذلك كيف لي أن أحمي قلبه من أن ينكسر بسبب تعليق
سخيف جارح قد يمتد أثره لما بعد البلوغ؟
الأمر خارج عن سيطرتك
سلمى طويلة وهبيلة
محمد أذناه معوجة من الممكن أن يكون جاسوسا
سارة تشبه الأولاد ولديها شنب
نور فاشلة لا تعرف أن ترسم كفنانة
سلطان مسيطر كرئيس لن يتحمله أحد
تعليقات كهذه نظن أنها كفيلة بإلحاق ضرر طويل المدى يشعرك أن دورك كأب ودورك كأم في حماية طفلك لم تؤدياه بالقدر الكافي!
تجري مدافعًا عن طفلك بكل ما أوتيت من قوة، ربما بالرد على هذا الطفل المتنمر وتصعيد الأمر إن لزم للكادر التعليمي المسؤول، وتُطالب بدورهم ليس فقط في تقديم المعلومات لطفلك ولكن بتقديم الدعم النفسي والتدخل لإيقاف هذه المهازل التي تحدث بشكل يومي بين الطلاب! ظانًا أنك حميته وتحكمت في كل ما قد يؤدي لإفساد نفسيته وأعددته للدفاع عن نفسه مستقبلًا!
لكن ماذا عن الأحداث التي يكتبها الله عليه ولا حول لك فيها ولاقوة، عندما تصاب بالعجز والشلل الكامل، وتتجرد تجرد تام من الحول والقوة، وينفذ مخزونك من الطاقة لمحاولة النهوض، وتجف لديك الموارد من أي وسيلة للحماية وتشعر بالاستسلام التام.
ماذا لو فقد طفلك والده أو والدته؟ ماذا لو فقد صديقه العزيز فجأة؟ ماذا لو قررتما الانفصال؟ ماذا لو أصيب جده بالسرطان؟ ماذا لو أصيب قريبه في حادث سير؟ ماذا لو حدث أمر عظيم قدره الله عليه وعليكم كعائلة استحالت عنده الأسباب في تقديم أي نوع من الحماية وفقدت عندها أي قدرة على التحمل ورآك طفلك بإنسانيتك المجردة من كل قوة تبكي بكامل ضعفك وحيرتك. ماذا لو لم تكن النهايات دومًا سعيدة كما كنا نقرئها لهم في قصص الأطفال قبل النوم ماذا لوأكل الذئب الجدة ولم تجد سندريلا فتى أحلامها؟
{ولا تخافي ولا تحزني}
نخشى كثيرًا على أطفالنا ونخاف من أن يشعروا بالخوف والحزن، نود لو أنا أرجعناهم داخل أرحامنا فقط لنحميهم من قسوة وبشاعة ما يجري في هذه الحياة! ولكن هل نحن بذلك حقا نحميهم؟ هل أحداث الحياة خالية فعلا من الوجع، الألم، الحزن والخوف؟ هل نحن نحميهم بحق أم نزيدهم هشاشة تجعلهم أكثر رعبًا عند مواجهة أمر محزن لابُد من مواجهته؟
هل نحن نقوّي عضلة العزيمة والإصرار لديهم بالفعل؟
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم لأم موسى عليه السلام ((فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين))
يقول الجنيد في تفسير هذه الآية إذا خفت من حفظه وحمايته، فسلميه إلي (الله سبحانه وتعالى) بإلقائه في البحر، واقطعي عنه شفقتك وتدبيرك. تجردي من حولك وقوتك وإلجئي لحول الله وقوته بيقين أنه المدبر وأنه على كل شيء قدير. هو وحده الذي تكفل بحفظ موسى من فرعون وقومه وهو القادر على رده إليك!
{ولا تخافي ولا تحزني} أيتها الأم أيها الأب خوفًا على ما قد يحصل في المستقبل أو حزنًا على ما قد حدث وأنت تشعر أنك مسلوب الإرادة لا تدري كيف تحافظ على طفلك وتحميه.
لنتذكر أنه من يتوكل على الله سبحانه فهو حسبه ولنكن على ثقة في الله الحفيظ ولنردد ” اللهم إني استودعتك ذريتي يامن لا تضيع عنده الودائع في حضوري وفي غيابي في حلي وترحالي في يقظتي ومنامي، في حياتي وبعد مماتي، فاجعلهم اللهم في حفظك وكنفك ورعايتك وأمانك، واحفظهم من كل سوء ومكروه”
وتأكد أن من جعل الله حسبه وكافيه فليُبشر بالفرج الذي قد يأتي على شكل سكينة تهبط على القلب وقبول ورضى لما حدث، وقد يأتي على هيئة ثقة بحكم الله وحكمته وأن أمره وقضاءه كله خير، وقد يأتي الفرج على شكل نمو قد يحدث بعد الأزمة والجبر له أشكال عدة والفرج كذلك فقط أسأله السعة لإدراك هذه المعاني والصبر والثبات.
ستكون هناك أحداث مروعة، حروب، أمراض وفقد. ولكن على الرغم من أن هذه الأشياء من الممكن أن تحدث بتقديرالله سبحانه وتعالى إلا أن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وكل بلاء ينزل يسبقه لطف الله سبحانه وتعالى، فلماذا بدلًا من أن نوجّه جهودنا الفطرية لحماية طفلنا حماية قد تكون في بعض الأحيان مفرطة تؤدي لهشاشته النفسية، إلى تعليمه أنّ الله سبحانه وتعالى متكفل بحمايته وحفظه وأنه هو الرب الرحيم أرحم به مني أنا أمه وأرحم به من أبيه.
الطريق إلى القوة الداخلية لا يكمن في الهرب من القلق والخوف، بل هو إنارة الضوء داخل السراديب المظلمة ومعرفة أن هذا الخوف جزء من الابتلاءات التي كتبها الله علينا {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} بشّر تعني أن الصعوبة ستزول بحول الله وأنها مؤقتة.
لنتعلم من القصص
هناك قصة أطفال للكاتبة جوديث اسمها “قصة النمر الذي أتى من أجل شرب كوب الشاي” يسترشد بها المختصين حاليا مع الطفل الذي يمر بأزمة بأنه من الممكن أن يحدث حدث سيء، ولكن بالإمكان أيضًا تحمله! تحكي القصة عن فتاة صغيرة تدعى صوفي تتناول الشاي مع والدتها في مطبخهم، عندما تسمع جرس الباب فجأة، وسرعان ما تفتح الباب لتجد نمرًا ضخمًا ينضم لهما ووالدتها لتناول الشاي ثم يأكل كل الطعام الموجود في المنزل ويشرب كل شيء، حتى أنه يستنزف كل الماء الموجود في الصنابير. بعد أن يغادر النمر، تشعر صوفي بالانزعاج ولكنها في اليوم التالي تخرج هي وأمها لشراء المزيد من الطعام بما في ذلك علبة كبيرة من طعام النمر استعدادا لزيارته المفاجأة. ولكن النمر لا يعود ثانية أبدًا.
لذلك النمر قد يمر وقد يطيل الزيارة ولكنه حتما بعد برهة سيذهب بعيدًا!
إلى متى سأقيس سكري كل صباح وكل ساعتين وفي كل ليلة؟ متى سيستجيب الله لدعائي بالشفاء؟ ماذا يشعر الطفل الطبيعي بدون سكري؟ كيف هي حياتك أنتِ يا أمي بدون سكر؟لطفلي أنا كالظل ، ظل منير حتى في العتمة، وقد يراني هو شعلة الأمان له في درب الحياة.
ممر نسير فيه باتجاه النور، كله عراقيل وحفر، و بيوت عناكب و أحجار طينية ذائبة تتساقط من حين لحين علينا على دون مرأى منّا عن وقت الهطول.
موحلة هي بعض اللحظات بالشدة كالحصى وبعضها الآخر بكلمات منه تلين وتزهر كبستان عطر و زهر.
نغيب ونُشرق معًا و تعود تساؤلاته تشكّل أحلامًا كثيرة. في حالته، تظلّ الأحلام لا تفسير لها على أرض المنطق والواقع والحياة. أحلام وتساؤلات وجودية، وشك وتيه و لَبس بين أسطح ناصعة وأخرى كلها خربشات.
كيف بي أن أصبح موجّهة؟ أُبدل الحروف لتبقى في سياق حُر ومقبول في قوالب علمية محفوفة بوعود ربّانية له ليبصر على معنى أننا مُختارون في هذه الدنيا مسخّرون للعبادة وصابرون لنَيل الخلود في الجنة بكامل الصحة والعافية.
فيعود ليختم حديثنا برغبته في أمنية أن يحيا بلا داء، فأضمّه إلى صدري ويبدأ بيننا حديث طويل كالنهر عنّا وعن الدنيا والآخرة، تكون فيه بصيرتي كالشمس ورؤيتي من الدموع شبه معدومة.نعتاد أن نكون جبلًا متكأً لأطفالنا لأنهم يستمدون القوة منّا ويتعلمون الخلق الحسن واللين من تجاربهم معنا على مرّ الأيام. باتزان ووسطية، بعقل وحكمة، نبني داخلهم شعور ثابت غير متذبذب وثقة تقودهم لبر الأمان في تواجدنا أو عدمه، نتركهم ومغروسٌ في زوايا أجسادهم فسيلة مخافة الله والتعلق به وبأقداره، لتصبح الحياة من منظورهم أكثر واقعية فيعيشون فيها برضا تام وقناعة واستجابة صحيّة لكل ظروفها ووقائعها.
يعود في انحناءةٍ أخرى لتلك التساؤلات، فتعود بيننا لغة المصارحة بصدق، تبدأ بأن السكّري جزء منك وصديقك ورفيق حياتك الذي لن يغيب ولن ينتهي ولن يزول، أوجده الله فيك لحكمة واختارك الله لأنه يعلم قوتك وصبرك وشخصيتك التي تتغلب على الصعاب بحنكة وابتسامة قوية وإصرار على الحياة.
يعود ويغرس في أرضي سؤالًا صعبًا: لماذا أنا؟
لأعود وأجيبه وأقصص عليه بداية البشرية، من آدم عليه السلام إلى محمد عليه السلام وكيف أن الأقدار الإلهية واقعة على البشر جميعًا من أنبياء ورسل وعباد بلا استثناء، وكيف أن لكل فرد منا قدرٌ مكتوب يستوجب منّا الرضا والاستسلام واليقين بأن كل الخير هو كل ما يأتي من الله، حتى لو كان ما تراه يا بني لا يمثل لك خيرًا إلا أنك ستدرك في عمر ما خيرية قدرك.
تجربتي علمتني أن الأمومة بما فيها من مسؤوليات لا تتوقف على العلاقة بيني وبين أبنائي، ولكنها أيضًا تجبرني كأم أن أتواصل مع العلم والمعرفة بشكل دائم حتى أستطيع مواكبة تلك التساؤلات الوجودية التي أعجز أحيانًا عن إجابتها والتفاعل معها بشكل مقنع لأبنائي جميعًا، فإن كانت تلك الأسئلة تلحُّ على عقل ابني المصاب بالسكري فهي تلحُّ على عقل الآخرين من زوايا أخرى مختلفة وفي جميع الحالات لابد لي من التسلّح بالأصول الشرعية والعلمية بشكل مستمر ودائم.
من جديد إلى كل أم تواجه حياة مختلفة عن الحياة الطبيعية بوجود طفل أو طفلة أو أكثر بحاجة لرعاية خاصة نوعًا ما، لابد أنك ستدخلين نفقًا مظلمًا يقضّ على أنفاسك، لكن الجميل في الموضوع أن سنة الحياة هي في الخروج من ذلك النفق مهما طال السير فيه. لذلك إن كنتِ في أول النفق أو وسطه أو آخره، ضعي أمام عينيكِ فكرة الخروج الآمن من خلال اعتقادك وأملك الناصع بالبياض.
وكما قال طبيب النفس والأعصاب دانيال جيه سيجل: ”اللحظات التي تحاول فيها النجاة، وحسب، هي في الواقع فرص لمساعدة طفلك على الازدهار ومساعدته ليصبح شخص مسؤل، عطوف، مقتدر، قوي واثق كما تريده أن يكون“.
“إذا كان لابد من اختيار صفة واحدة جامعة لطابع المؤمن لقلت السكينة، فالسكينة هي الصفة المفردة التي تدل على أن الإنسان استطاع أن يسود مملكته الداخلية ويحكمها ويسوسها.
إنك تقرأ هذه السكينة في هدوء صفحة الوجه، ليس هدوء السطح، بل هدوء العمق، هدوء الباطن وليس هدوء الخواء ولا سكون البلادة، وإنما هدوء التركيز والصفاء واجتماع الهمة ووضوح الرؤية، وكأنما الذي تراه أمامك يضم البحر بين جنبيه، والبحر ساكن، ولكنه جياش يطرح اللآلئ والأصداف والمراجين من أعماقه لحظة بعد لحظة فهو غنى الغنى اللانهائي.”
هذه الكلمات لدكتور مصطفى محمود رحمه الله وجدتها هي لب التربية، تحديدا مفردة السكينة، فبعد أعوام طوال من التعرض لصنوف متعددة من النظريات التربوية، بمناهجها وأساليبها الحديثة، أدركت إدراكًا لا يدع مجالًا للشك: أن كل ما تعلمته وفهمته لن يمدّني مع أبنائي بما يجب أن أكون عليه، وبما أريده لهم ومنهم، دون أن أكون في حالة من السكينة والهدوء.
فسيادة المرء لعواطفه، ويقظته بتصوراته، ورد فعله الناتج عنهما، هو بداية طريق التربية الفعلي، فتربية الأبناء لا تبدأ أبدًا من ممارستنا لفعل التربية معهم، بل تبدأ حقيقةً بممارسة فعل التربية على أنفسنا أولًا!
وحتى أكون أكثر وضوحًا، يمكنني القول أنّي اكتشفت هذه الحقيقة بعد زمن لا بأس به من التركيز على أبنائي فقط، بمحاولات شتى أُقرّ الآن أنها رغم جديّتها عبثية! فالاعتناء بتفاصيلهم كان لابد أن يسبقه اعتناء بتفاصيلي، والاهتمام بأفكارهم وسلوكياتهم كان لابد أن يسبقه اهتمام بأفكاري وسلوكياتي، وقد تتساءل عزيزي القارئ أليس من الطبيعي أنني اهتممت بنفسي فعلًا؟ سأُجيبك أنني أقصد العناية والاهتمام بالأمور المتوارثة والمشاهدة، فلابد أن كل والد ووالدة يسعيان جاهدين لتطوير أنفسهم في مجالات شتى، وأنا هنا لا أشير لتلك الزاوية المضيئة، بل للزاوية المعتمة التي تقابلها من الجهة الأخرى والتي تخص التفاصيل التي يتعرض لها أطفالنا دون قصد أو وعي منا، وحتى تفهمني أعرض لك مثالًا من خلال بحث أشار إليه مارتين سليقمان في كتابه التفاؤل المكتسب، كانت نتيجته أن الطفل ينصت لمن يعتني به أكثر ويستقي منه، لذلك الطفل الذي ينتمي لأم متشائمة فإنها تنقل إليه التفكير التشاؤمي تجاه الحياة عندما يكبر.
إن مجرد تخيلي أنني رغم كل الحرص والبحث والقراءة في سبل تنشئة أبنائي تنشئة خالية من العيوب بأعلى الاحتمالات، أكون كالمثل القائل: وكأنك يا أبوزيد ما غزيت!
لأنني ساهمت في جعلهم أكثر تشاؤمًا مثلًا من خلال نمط تفسيري للأمور من حولي، أو من خلال شرحي النكدي للعالم، أو من خلال نغمة حديثي البائس اليائس، أو الساخر المستهزئ، أو من خلال كثرة التذمر من المشكلات بدلًا من البحث عن حلول لها، أو من خلال نقد الهوية بدلًا من نقد السلوك، أو من خلال الإهانة والتوبيخ واللوم أكثر من التشجيع والدعم، أو من خلال التغافل عن توضيح الاحداث المؤلمة كالفقد بدلًا من تعليمهم أهمية تقبلها.
تلك التفاصيل التي أشار إليها د. أسامة الجامع في إحدى مقالاته هي التي يراها الصغير ويتشرّبها، هي التي تتطلب يقظة حقيقية لما نكون عليه فعلًا كمربيين، فاهتمامنا بمكانتنا الاجتماعية وارتفاع سقف ثقافتنا، وتعرضنا لأحدث ما أفرزت النظريات التربوية، لا يتعدى أن يكون أمرًا سطحيًا طالما لم يُترجم كسلوك يشاهده الابن والابنة على مدار اليوم.
ولربما يمكنني الادّعاء أن سنوات من التربية مرت لم أستوعب من خلالها لبَّ الحقيقة وأنا أجري سعيًا لتعلم كل ما استطعت إلا حين بلغ أبنائي عمرًا تحولَت فيه العلاقة بيننا إلى صداقة، تمكّنت فيها من خلال مكاشفات عدة، أن ألتقط أنفاسًا عميقة وأسمع بصوت أبنائي اعتراضاتهم على أفكار بعينها، وتساؤلاتهم عن موروثات محددة، وتبنّيهم لأفكار لم نتبناها من قبل، واستنكارهم لتفاصيل أقوم بها! نعم إنك تقرأ جيدًا، استنكارهم لتفاصيل أحثهم على اتباعها رغم أني الأقل اتباعًا لها أي أنني أخالف ما أنادي به!
وهنا كنت كمن انكشف عنه الغطاء، واستوعب الحقيقة، فهذه العلاقة بين الوالدين والأبناء تتطلب استيعاب سنة كونية ذكرها د. عبد الكريم بكّار مفادها: أن الانسان يأتي إلى هذه الحياة وهو لا يعرف أي شيء، ولكنه في الوقت نفسه مزود بالاستعداد لأن يتعلم كل شيء (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) – سورة النحل، آية ٧٨
لذلك من الحكمة في عملية التربية إدراك أن المرء حين يُولد يكون قد ورث عن آبائه وأجداده خصائص روحية وعقلية ونفسية ومزاجية محددة، لكنه في الوقت نفسه يملك الكثير من الاستعدادات والقابليات لتمكّنه من أن يختلف اختلافًا كبيرًا عن أشخاص لديهم نفس الموروثات النفسية، وهذا ما يجعلنا نتأكد من أن بعض ثقافتنا الموروثة فيها من الأوهام الكثير، كالزعم أن الطفل أشبه بالعجينة بين اليدين نستطيع تشكيلها على النحو الذي نرغبه، وهذا ليس بصحيح. والدليل أن البيت الواحد يُنتج أبناء بسلوكيات مختلفة ونظرات مختلفة للحياة، وما ذلك إلا لأن الطفل ليس مثل العجينة أو قطعة الصلصال بشكل كلي.
إن وعيي كأم ووعيك أنت أيضًا كمربي بأن الانسان حين يولد فإنه فعلًا لا يملك أي مقوِّم أساسي من مقومات الإنسانية فهو لا يملك اللغة ولا المشاعر ولا معايير الصواب والخطأ، كما أنه لا يعرف ما هو نافع ولا ما هو ضار، ولا يعرف كيف يفرق بين اللائق والغير لائق وبين الآمن والخطر وعليه أن يكتسب كل ذلك من خلال التربية، دليل قد يتشبث به القائل أن الطفل عجينة يمكن تشكيلها! والحقيقة أن الطفل قابل للتشكّل ولكن بشكل جزئي.
تخيل كم هو مؤثر هذا الجزء، بداية من أنفاس أبنائنا الأولى، إلى الزمن الذي تتشكل فيه هويتهم ويبدأ كلًّا منهم بالإفصاح عن نفسه وأفكاره، والمشكلة أنه ما إن نكتشف مسافة اختلاف وتباين معهم حتى ندخل في صدام عجيب، فيتحقق فينا مصطلح الآبائية والذي يُفهم منه: إيمان الآباء بامتلاك ناصية الحقيقة كاملة، والشعور بامتلاك الحقيقة مع أنه غير صحيح إلا أنه يدفع إلى الجمود، لأن حركة الفكر والعلم لا تنشط إلا عند الإحساس بأن هناك حقائق خافية أو مشكلات تحتاج إلى حل، ومن هنا كانت متابعة الآباء والأجداد من غير ميزان عبارة عن حركة إلى الوراء، صحيح أن ليس كل ما يرثه المرء عن آبائه وأجداده رديئًا، لكن الرديء المراد هنا هو أن نفقد القدرة على الحكم على تلك الموروثات ونحلها محل القبول والاقتداء، ونُصرّ عليها في تعاملاتنا مع أبنائنا!
لذلك وبأمانة يجب علينا الاعتراف أن المعرفة التربوية التي كانت صالحة لتوجيه التربية قبل سنوات لم يعد كثير منها صالحًا اليوم بسبب تغير الظروف والمعطيات، مما يستدعي الانفتاح على الأفكار والمعلومات والملاحظات التربوية الجديدة.
فالتربية عملية تفاعلية وما نحصل عليه من معارف ومعلومات وخبرات تربوية ليست لوعظ الأبناء، ولكن من أجل تقويمنا وتحسين امكاناتنا في توجيههم، وهذا ما يفسر أن أُمًا لم تحصل على أكثر من شهادة متوسطة تربي أفضل من أم تحمل الدكتوراه في التربية، فالأطفال لا يتفاعلون مع الشهادات، ولكن مع من يحمل الشهادات.
إننا اليوم نحيا في زمن الحداثة وما بعدها، حيث بات الصلب سائلًا، وتم إذابة المفاهيم والقيم والأخلاقيات والثوابت، من خلال كل وسيلة إعلامية بين أيدينا وأبنائنا، وأمام الكم الغزير من المعلومات السائلة والمتغيرة، كيف للمربي أن يغفل عن السرعة الجنونية التي يجري بها نهر الأيام حاملنا وأبناءنا على سطحه؟ كيف لنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام تهالك الصلب وتساقطه من حولنا؟ كيف لنا أن نستلهم الأسلوب الأسلم لرفع وعينا وأبنائنا؟
والجواب يبدأ كما بدأت المقال: من تربيتنا لأنفسنا، وباستنادنا على السكينة، تلك التي تمدّنا بالاتزان، وترشدنا بالحكمة، وتُنير المنطق، وتُدير العاطفة.
إن السكينة إن سكنت أضلعنا جعلتنا ننتقل من حيز أنفسنا إلى حيّز أبنائنا بمرونة وحكمة، فنكون نحن المشاهد والمنظور الأمثل في أعين أبنائنا، ويكون حديثنا هو المثير الأفضل لفطرتهم، فأمام السيولة الجارفة لن يُجدي بعد المعرفة والوعي إلا استدعاء الفطرة بإثارة العاطفة حواريًا للحفاظ على الهوية، والقيم الأخلاقية، والمحكمات الإسلامية والإنسانية.
إن رحلة التربية لا تخلو من الشكوى الناجمة عن اتساع حجم الاختلاف الفكري بيننا وبين أبنائنا، اختلاف في التعامل مع المواقف، اختلاف في تبنّي وجهات النظر، اختلاف في التعاطي مع الظروف المختلفة والمسائل المستحدثة، اختلاف مع قوانين الأسرة ومدى القناعة بها، اختلافات تبدأ بموعد العودة للمنزل مساءً، وعدد مرات الخروج أسبوعيًا، مرورًا بنقاشات ساخنة حول الحجاب والحشمة، ومساحة الاختلاط المسموح به، ومفهوم الصداقة بين الجنسين، وانتهاء بضرورة الاقتناع بكل صغيرة وكبيرة قبل السمع والطاعة! وأكثر من ذلك! نعم أكثر أيها القارئ العزيز.
ورغم أن هذا الواقع مرهق إلا أن هذا الاختلاف صحّي جدًا بل هو دليل عافية، لأننا واقعيًا نتغير على أنفسنا، وقد نشتكي من تبدّل أفكارنا وأهوائنا علينا، فكيف باختلافنا مع أبنائنا!
إن هذا الاختلاف يثمر بالكثير كلما تم احتواؤه وتوجيهه توجيهًا صحيحًا بحارس يسمى القبول، وجندي يسمى اللطف، وكتيبة من الدعاء.
سأكون صريحة جدًا معك، رغم إيماني الشديد بأن هذا الاختلاف صحّي، إلا أنني لن أدّعي مثالية لم أعشها، حيث إنني لم أسلَم من حالات اليأس والإحباط والسعي للوصول إلى أرضية مشتركة بيني وبين أبنائي نقف عليها من حين لآخر، ولم أسلَم من نوبات غضب أفقد فيها أبسط أصول اللباقة واللياقة فأتفوّه بما أندم عليه، واستخدم سلطتي فيما يؤنّب ضميري لاحقًا؛ لتنتابني حالة مزمنة من الإرهاق الأمومي!
وكم كان سلامًا لنفسي وسكينة حين تتبّعت إجابة تساؤل رافقني في مراحل التربية المتقدمة عن الكيفية التي ربّى الأنبياء بها أتباعهم؟ وكيف تمكّنوا من لفت انتباههم رغم تشكّل عقائدهم، وتفاوت أعمارهم؟ لأجد الإجابة تكمن من جديد في التحلي بالسكينة، تكمن في وهب المساحة والمسافة زمنًا وحجمًا، تكمن في اعتناق الصبر كوسيلة لازمة لمرور الأيام لا كوسيلة للوصول، لأن التربية في واقع الأمر وبعيدًا عن التفاؤل غير الواقعي، أمرًا مستمرًا مادامت الروح تتمتع بأنفاسها.
لذلك كلما ضاقت نفسي بتضاد الأفكار بيني وبين أبنائي، واختلاف التوجّه بيننا، واستيائي من المسلك الذي نال استحسانهم ولم ينل ذلك مني، عدت أذكر نفسي بلزوم السكينة وسألتها:
ألم يقعد النبي عليه السلام ١٣ عامًا حتى تحول إلى الدعوة الجهرية؟
ألم يأمر أتباعه بالصلاة بعد أعوام من تعريفهم بالله وتليين قلوبهم؟
ألم يدخل يونس عليه السلام بطن الحوت حين يئس من إيمان قومه؟
ألم يقل له الله عزّ وجل (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) – سورة يونس، آية ١٠٩؟
كما نكون ستكون تربيتنا، وما دمنا نحن الذين نستكمل جزء من طبيعة الطفل ونصوغ تفاصيل في شخصيته علينا استجلاب السكينة حتى لا تتحول تربيتنا إلى وسيلة لتكريس الواقع السيء ونقل الأمراض الخُلقية والاجتماعية من جيل لآخر، وحتى لا يتحول مناخ التربية إلى مناخٍ قاس أو مفرط في اللين!
يقول د. مصطفى السباعي: “إفراطك في القسوة على ولدك يقطعه عنك، وإفراطك في تدليله يقطعك عنه، فكن حكيمًا وإلا أفلت من زمام يدك”.
عزيزي المربّي، بعد أعوام من التربية داخل موج هادر، آمنت إيمانًا جازمًا بأن تربية الأبناء في حالة السكينة نقطة البداية الصحيحة والوحيدة، حين تكون النفس كالبحر الساكن، إلا أنها جيّاشة تطرح اللآلئ والأصداف والمراجين من أعماقها لحظة بعد لحظة فهي غنى الغنى اللانهائي.
هاجر المدودي
٣ شعبان ١٤٤٣ه
٦ مارس ٢٠٢٢م
مصادر تم الاستعانة بها في كتابة المقال:
كتاب هي هكذا د. عبد الكريم بكار
كتاب في إشراقة آية د. عبد الكريم بكار
كتاب أسرار القرآن د. مصطفى محمود
كتاب هكذا علمتني الحياة د. مصطفى السباعي
كتاب الحياة مشاعر د. أسامة الجامع
كتاب الحداثة السائلة زيجمونت باومان
كتاب أنا تتحدث عن نفسها د. عمرو الشريف
لماذا لا تنبت يدي كل ما غرسته لأمي وتزهر عندما ألونها بالأخضر؟ ومن أين تتوالد ضحكات أبي و قهقهاته؟
تقول أمي أنه يجب علي أن أنهي كل ما أضعه في صحني ولكن هل ستكبر حبة البازلاء في أحشائي وتنبت طفلًا كما يكبر الجنين في أحشائها عندما تأكل؟ لا لن أنهي صحني لا أريد مخلوقًا مزعجًا آخر في بيتنا!
أتساءل أيضًا أين يقف الطير الأخضر كل يوم ليهمس لأبي عن ما فعلته في يومي؟ وكيف له أن يفهم لغته؟ أليس نبي الله سليمان هو من يفهم منطق الطير وحده؟ ولماذا لا يخبره عن الأشياء الجميلة التي قمت بها في يومي؟ حسنًا سأغلق جميع الشبابيك لكي لا يجد هذا الطير الأخضر منفذًا!
أمشي وأمشي وأمشي ويمشي القمر معي، “كيف لهاذا المخلوق الجميل أن يلاحقني ولا يمل؟” أسأل أبي
فضولي الطفولي الفطري كان بإمكانه أن يتضاءل ويموت في يوم ما لو قوبلت بجواب حتمي، أو ببساطة لو قيل لي: “لا داعي للأسئلة التي ليس لها جدوى!” كان أبي دومًا يترك لنا هذه المساحة للتساؤل والفضول، صحيح أني كنت أتلقى أجوبه حتميه أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى كنت أسمع “عندما تكبرين يا ابنتي ستفهمين!” ولكن أسئلتي لم تقابَل بالتهكم أو الإغلاق!
كنت أظن أنني عندما أكبر سأكون قد وصلت لحقيقة الأمور! نعم فالكبار قد فكوا شفرة الحياة ومعانيها ويبدو أنهم خاليين من الحيرة و لا شيء يستعصي عليهم فهمه! فكيف لي أن أقفز سنوات عمري وأصل لهذا المكان الملوكي وأجد جوابًا لكل سؤال يتقافز في ذهني؟
كبرت وعلمت أن الأسئلة لا تنتهي ولكنها تتوالد ويصبح لها أطفال وأحفاد وأبناء عمومة!
كبرت وأصبحت أمًا وتجدد فضولي مع أبنائي، تلك الدهشة التي أراها في عيونهم وهم يحاولون فك ألغاز الحياة فأعاود التساؤل والدهشة من جديد، وأدعو حينها أن لا تنتهي ولا تنطفئ دهشتي معهم!
أسئلتهم رغم بساطتها و فطريتها تصبح أحيانًا تساؤلاتي! تعلمت كيف أحتفل بهذه التساؤلات ولا أوئدها في مهدها رغم مشاغل الحياة وسهولة الجواب في نظري!
“ماما ألسنا مخلوقين من طين؟ كيف للطين أن ينبت شعرًا؟” كان آخر تساؤلات ابنتي الصغيرة مريم
“ماما لماذا لم تسمي أخي فاضي؟ مثل العلبة الفاضية بصراحة هو ممل وكثير البكاء ليتك أحضرتِ شيئًا أكبر منه” تسأل بتيل
ومرة فاجئني ياسين بسؤاله: “لماذا لا يمكنك التصدق بأختي كما تتصدقين بملابسنا؟ ولماذا لا تشتريلها أسنان من السوبرماركت وتتوقفي عن إطعامها؟”
“ماما ما معنى (يمنع الماعون) أليس هو من يمتنع عن الصدقة؟ لماذا تحتفظين إذا بعيدياتي؟” سألتني ملك ذات يوم:
“هل للشيطان امرأة تحت الأرض كما خلق الله حواء وآدم على الأرض؟”
وعندما كبرت صغيرتي أدهشتني ذات يوم عندما سألتني: “كيف لي أن أفرق بين صوتي وصوتك في ذهنك؟ كيف لي أن أعرف أن ما أقوم به نابع من قيمي وهو صوتي الداخلي وليس صوتك ولإرضائك؟ كيف أفرق بين وساوس نفسي ووساوس الشيطان يا أمي؟”
يكبرون وتكبر أسئلتي معهم!
أكبر وأتوق لبريق الدهشة، ذلك الذي يدغدغ وجداني ولم يعد يزورني إلا كل حين!
سأعرف أني كبرت حتمًا عندما تتوقف عيني عن اللمعان والبريق وروحي عن الاندهاش!
>
>
بقلم رولا بادكوك.